يتناول هذا المعرض ظاهرة العبء الزائد في عصر ما بعد الحقائقي، حيث يتميز هذا العصر باعتماده إلى حد كبير على أوساط الإعلام الاجتماعية بصفتها مصدر للمعلومات. هذه النزعة نابعة من انعدام الثقة بالمؤسسات الرسمية الصحافية والإخبارية ومن وطأة كمية المعلومات الهائلة. في هذا العصر نجد ان كمية المحفزات المتواترة بلا انقطاع تموّه الحقيقة وتعيق التفكير العقلاني وتعرقل عملية تنقية الأفكار والرسائل. وإزاء كل هذا يسعى المعرض لاختبار كيفية انعكاس ظاهرة العبء الزائد في الفن ويقدم في هذا السياق مشروعات أعمال لثلاثة فنّانين: رونيت برنجا، كريستينا دي ميدل وألون كيدم.
في إنشائية النحت وعنوانها "الحيطان تتكلم" من إبداع الفنانة رونيت برنجا، يظهر تجمع كبير ومتراص لأفواه في زاوية الفضاء. الكلام المنتقل من فم لآخر يسعى لأن يُقال، يسعى لنشر المعلومة. وعلى حد قول الفنّانة فإن "الحيطان تتكلم وتنقل الكلام وتنشر ما في جعبتها من كلام. هذه بالضبط هي النقطة التي تتضعضع فيها الثقة بان السر سيظل محفوظاً ومحصوراً بين الحيطان". تتناول هذه الإنشائية خاصية ثقافية للغير مادية - ميميات إنترنت تتناسخ وتتفشى أحياناً كالفيروسات. وكلما ابتعدنا عن أصل الرسالة تتسع الفجوات بين الأفواه. تتمدد الإنشائية وتنتشر كأنها رسالة بريد إلكتروني عشوائية، بطريقة تعبر عن انعدام السيطرة.
سلسلة الأعمال "Poly Spam" أبدعتها الفنّانة كريستينا دي ميدل بعد أن عملت مصورة صحفية طيلة سنوات. تقول الفنّانة: "لغة الحقيقة خذلتني. وفي مرحلة ما لم أعد راغبة بأن أكون جزءً من هذا المشهد. ينبغي لنا أن نكون ناقدين أكثر وأن نعيد النظر في كل الأمور". اختارت دي ميدل رسائل بريد إلكتروني عشوائية من الرسائل التي تلقتها واستخدمتها كأساس لإنتاج صور مُمنتجة في جو دراماتيكي – "ملامح لوجوه باعثي الرسائل" على حد تعبيرها. وإلى جانب كل صورة تم فيها بناء تخطيط لوجه باعث الرسالة وضعت الفنّانة الرسالة التي استلهمت منها تلك الصورة المخططة.
أما لوحات الفنّان ألون كيدم فإنها تتناول ذلك التوتر بين الواقعي والافتراضي، بين البناء والتفكيك، وبين الإدراك والجسد. يختبر كيدم وفقاً لتعبيره "كيف تنشأ داخل منظومات المعرفة المفتوحة علاقة بينك وبين العالم، وبينك وبين ذاتك". تعبر لوحاته عن تجربة الترحل بين مواقع الإنترنت. إنه يصف واقعاً غير محسوس للمُشخَّص الديجيتالي وفي الوقت ذاته يختار عملية الرسم المادية والحسيّة والملموسة. في لوحاته أجزاء أجسام وشاشات مع وجوه والأقمار والشموس تطفو بلا مرساة في محيط يبدو وكأنه قمامة ديجيتالية.
الفنّانة والمُنظّرة هيتو ستايرل تطرقت إلى الخرائب الديجيتالية في مقال لها بعنوان "قمامة ديجيتالية: بريد عشوائي واحتيال" (2011). على حد تعبيرها فحتى لو بدى لنا أن هذه المصطلحات ليس لها معنىً إلا إنها راسخة في الواقع المادي. أفضل مثال على القمامة الديجيتالية هي رسائل البريد العشوائية (SPAM)، وهي الغالبية الساحقة لرسائل البريد الإلكتروني التي يتم إرسالها يومياً. في حاويات القمامة الديجيتالية هذه يمكننا أن نتوصل إلى مدارك بالنسبة للقيم السائدة في أيامنا. الـ "سبام" ينتشر كالفيروس في إنشائية الفنانة برنجا، يُستخدم كأساس نصّي لصور الفنانة دي ميدل ويُعرض كقمامة ديجيتالية في لوحات الفنان كيدم. وكلها تعكس الطرائق التي ستحول من خلالها إلى عامل مهم في عهدنا في عصر ما بعد الحقيقة.
أمينة المعرض: ريفيتال سلفرمان جرين